لحظة تفكير
تحكي الأسطورة الإغريقية عن شخصية قاطع طريق يدعى بروكست. كان يسكن في مدينة كوريدال. وكان يخرج إلى الطريق الرابطة بين أثينا وإيلوسيس، فيقبض على المسافرين، ليمارس عليهم تعذيبا بالغ الغرابة. وقد كانت أداته في التعذيب هي مقاس السرير. حيث كان يخدع المسافر بدعوى ضيافته، لكن بمجرد ما يدخله إلى بيته يبدأ في ممارسة عنفه السادي عليه. حيث كان لديه سريران واحد صغير الحجم جدا والثاني كبير جدا. فإذا كان المسافر من طوال القامة يمدده على السرير الصغير، ثم يقطع رجليه حتى لا يبقى من الجسد إلا ما يماثل حجم السرير. أما إذا كان من قصار القامة فيمدده على السرير الكبير، ثم يمطط جسده حتى يطول ويستوي على مقاسه. وكلتا العمليتين مؤلمتين جدا.
لكن هذه الأسطورة نجدها مروية عند بلوتارك بصيغة أخرى، وهي أن بروكست لم يكن لديه سوى سرير واحد. غير أنه كان سريرا خاصا لا مثيل له في شكله ومقاسه، ولذا فحتى جسد بروكست ذاته لا يناسبه.
أما عملية التعذيب فكانت هي ذاتها؛ حيث إذا وجد المسافرَ أقصر من السرير، فإنه يقوم بتمطيط جسده، أما إذا وجده أطول منه، فإنه في هذه الحالة يقوم بقطع رجليه حتى يكون الجسد على مقاس السرير بالضبط.
تكاثرت جرائم بروكست، لكن حظه العثر أوقعه يوما في مسافر من نوع خاص، إنه البطل الأثيني تيسي. فقام هذا الأخير بقتله بنفس طريقة التعذيب التي كان يمارسها على ضحاياه، أي التمدد على السرير والبدء في بتر ما لا يتناسب مع مقاسه، أو تمطيط الجسد حتى يتماشى مع مساحة السرير...
تلك هي حكاية هذه الأسطورة الشهيرة.. وإني إذ أستحضرها هنا فذلك للتمهيد لدراسة النقد. إذ أجد بين حالة بروكست وحالة النقد مشاكلة ومشابهة. وبين ساطوره وسريره، وبين طرائق النقد ومناهجه قرابة ونسب. وبين الجسد المسكين الذي يوضع للقطع أو التمطيط على السرير، والنص الأدبي الذي يوضع على طاولة النقد مقاربة إن لم نقل مماثلة !!
لذا كان استحضار هذا المحكي الأسطوري لتحليل وضعية النتاج الأدبي/الفني أمام النقد، آت من طبيعة الممارسة النقدية ذاتها.
ألا ترى أن الناقد يأتي النص بعدة منهجية جاهزة، فيقرأه ويحلله بناء على المنظور الذي تحدده تلك العُدَّةُ، فيخلص ولابد إلى تقطيعه، وإعادة تركيب أجزائه والحكم عليه، على النحو الذي يسمح به منهجه المبني مسبقا؟
لا ريب أن الجهاز المنهجي يتم بناؤه خارج النص، حيث يتبلور ويستوي قبليا؛ ونادرا ما نجد ناقدا مذهبيا يطوع منهجه للنص، بل الغالب أنه يطوع النص للمنهج، وليس العكس. ومن ثم فالجهاز النقدي يكون كالأداة التي تصنع قبل الموضوع الذي تزعم القدرة على الاشتغال عليه. ولما تتوسل تلك الأداة لتحليل ذلك الموضوع لابد أن يحدث نشاز وعدم تناغم بين الأداة النقدية الجاهزة والنتاج الفني المراد مقاربته.
لكن قد يقول المعترض على ما سبق: إن الأداة المنهجية النقدية ليست مادة ميكانيكية صلبة، حتى تناشز الموضوع الإبداعي على هذا النحو الذي تصفه هذه السطور، بل هي منطلق نظري يمكن للناقد أن يعيد صياغته ليتناسب مع موضوع اشتغاله النقدي رغم أن تلك الأداة تم تشكيلها قبله.
وهذا احتمال وارد، غير أن الثابت في الممارسة النقدية أن كثيرا من التطبيقات كانت بالفعل اعتسافا على موضوع اشتغالها. فتبدى المنهج فيها وكأنه سرير بروكست، بقالب مادي صلب لا يتغير ولا يتعدل، بل يتم استدخال الكينونة الإبداعية داخله، فتخرج بملمح خاص مراد لها ابتداء. إن هذه التطبيقات النقدية تأخذ النتاج الأدبي، وكأنه موضوع للتصرف والاستعمال، وتطبق أدواتها الإجرائية وكأنها منظورات مقدسة لا يجوز مراجعتها ، بله إعادة بنائها حتى تتناسب مع طبيعة الموضوع /النتاج الأدبي الذي تتناوله النقد.
وتلك فعلا هي ممارسة بروكست!